بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني
أصحاب الفخامة و المعالي والسعادة ،،
الحضور الكرام ،،
أحييكم جميعاً وأرحب بكم في الدورة السادسة عشرة لمنتدى الدوحة الذي انطلق قبل 16 عاماً كمنصة تعددية للحوار العقلاني حول القضايا الرئيسية في عالمنا ومنطقتنا.
إن الرعاية الكريمة والدعم المستمر من سيدي حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى " حفظه الله " لهذا المنتدى جعلته واحداً من أهم المحافل التي تبحث بعمق في مختلف المستجدات والتطورات وتسهم بوعي في مواجهة التحديات والازمات والعمل على ترسيخ الأمن والاستقرار اللذان أضحيا قيمة مطلوبة أكثر من أي وقت مضى. و ما يشهده العالم من أزمات تفرض الاستفادة من فرص التشاور بين السياسيين ورجال الفكر في شتى المجالات لوضع الحلول الناجعة لتحقيق الاستقرار والأمن للشعوب والدول.
السيدات والسادة،،،
الحضور الكرام ،،
لأسباب مفهومة، أصبحت مصطلحات السلم والاستقرار والأمن هي الأكثر استخداما في لغة السياسة هذه الأيام ، وأصبحت تنافس مصطلحات الكرامة والعدالة والحرية.
وفي ظل التحولات الإقليمية والعالمية، تحاول قوى سياسية أن تفرض تناقضاً بين هذه المفاهيم ، بينما يكمن التحدي في إظهار التكامل الضروري بينها.
إن السلم الحقيقي هو ذلك القائم على العدل وليس على القمع والظلم، كما أن المفهوم الضيق للأمن لا يلبث أن يشكل خطراً على الأمن ذاته.
ومثلما لم يعد ممكنًا تحقيق التنمية الاقتصادية بدون التنمية البشرية الشاملة، أصبح من الضروري مقاربة الأمن من منطلق مفهوم الأمن الإنساني بأبعاده كافة: الاقتصادية والسياسية والبيئية والمجتمعية.
إن من واجب الدولة تحقيق الأمن لشعبها ومجتمعها، فهذه وظيفتها الحصرية، وتواجه هذه المهمة تحديات خطيرة في العديد من مناطق العالم أبرزها الصراعات المسلحة، واستفحال ظاهرة الإرهاب والتطرف، وقضايا الفقر والبطالة الناجمة عن التفاوت في مستوى التنمية بين الدول وداخل كل دولة ، وزيادة أعداد اللاجئين الذين لا مأوى لهم، وظهور الميليشيات المسلحة خارج مؤسسات الدولة.
هذه التحديات جسيمة بحد ذاتها، ولكن ثمة عوامل تضاعف من أضرارها، مثل استمرار مجلس الأمن في الانتقائية في معالجة القضايا، واعتماد بعض الدول بشكل رئيسي على القوة في حل المشاكل، ورهان قوى سياسية على مخاطبة المخاوف والنزعات العنصرية والطائفية التي تُغيب السياسة وتقود إلى أحد خيارين هما الإقصاء أو الحرب الأهلية.
وهما وجهان لمقاربة واحدة تقوم على تقسيم المجتمعات إلى جماعات متخاصمة، وتقويض المواطنة كعلاقة مباشرة بين الفرد والدولة.
إن التصدي للتحديات التي تواجه الأمن تفرض مقاربة شاملة للأمن الإنساني والمجتمعي، وهذا يعني إعادة النظر في الكثير من السياسات والممارسات.
وعلى مستوى العلاقات الدولية، فإن الأسلم هو اتباع أحكام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، الذي يتضمن قيماً إنسانية عالمية متفقاً عليها، فتجنب معالجة القضايا بحصرها فقط في عملية تسمى أحيانا "العملية السياسية" وأحيانا أخرى "عملية السلام"، قد يعني، دون التقليل من أهميتها، ترك الضعيف رهينة للقوي، وتفضيل إملاءات القوة على مبادئ العدل والإنصاف.
الحضور الكرام ،،
إن القهر والاستبداد وازدواجية المعايير وانتهاكِ حقوق الإنسان وحرياته الأساسية هي تهديد للأمن الإنساني .
ومن البديهي أن الطريق الأفضل لمعالجة هذه القضايا هو الحوار السياسي والمجتمعي بأشكاله المختلفة وقنواته المتعددة للتوصل إلى أفضل السبل للتغيير، بواسطة إصلاح مؤسسات الدولة والقوانين والإجراءات والسياسات المتبعة.
لقد انتفضت الشعوب في المنطقة العربية عندما انسدت سبل الإصلاح، ناهيكم عن أن الرد الأمني عليها ولد أزمات جديدة لم تكن قائمة.
وعليه، فإن تحقيق المصالحات الوطنية الشاملة في منطقتنا العربية بعناصرها المختلفة، والتوافق على عملية التغيير هي الضمان للأمن والاستقرار للشعوب، فلا سبيل إلى ذلك سوى تغليب منطق التوافق السياسي والاجتماعي، والحوار بين الشعوب والحكومات، للتمكن من إجراء الإصلاحات التي تعكس المطالب الشعبية، وفي مقدمتها احترام حقوق الإنسان وصون كرامته وحرياته الأساسية التي أصبحت مكتسبات للإنسانية جمعاء.
إن التوافق على المواطنة الكاملة المتساوية أمام القانون والانطلاق منها كمبدأ عام هو الطريق الأضمن والأكثر وثوقاً في إيصال أي حوار كهذا إلى نتائج ملموسة.
السيدات والسادة،،
الضيوف الكرام،،،
تحتاج منطقة الشرق الأوسط إلى السلام والأمن والاستقرار قبل أي أمر آخر. والتهديد الرئيسي للأمن والاستقرار فيها هو عدم إغلاق المسألة الاستعمارية، ببقاء الملف الفلسطيني مفتوحا، واستمرار الاحتلال وممارساته دون حساب من المجتمع الدولي.
لقد وصلت عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية بالرعاية الأميركية إلى طريق مسدود ، بسبب عدم وجود أساس متفق عليه للمفاوضات ، وإخضاعها لمنطق القوة. ففي أثنائها، واصلت إسرائيل التوسع وبناء المستوطنات ، فأصبحت المعطيات على الأرض تبعدنا أكثر عن حل الدولتين.
إن عجز المجتمع الدولي على فرض أسس السلام العادل وتحقيقه في منطقة الشرق الأوسط يترك الشعب الفلسطيني رهينةَ الاحتلال، ويُبقي شعوب المنطقة عرضة لتراكم مشاعر الغضب والإحباط.
لقد طال الزمن على قضية فلسطين، وأصبح الإنسان العربي يحسب مراحل عمره بالانتفاضات والحروب، لقد كبر الشباب العربي على مشاهد تحدي إسرائيل للعالم ببناء المستوطنات في المناطق المحتلة، وتهويد القدس، ومصادرة أراضي الفلسطينيين وتهجيرهم، ومواصلة حصار قطاع غزة وشن الحرب عليه كل بضعة أعوام.
نحن لسنا في عصر الاكتشافات الجغرافية وإبادة الشعوب، فالشعب الفلسطيني متمسك بحقوقه الوطنية الثابتة ، ويربي أبناءه على الدفاع عنها وعدم التفريط بها، وحتى في مرحلة تهميش القضية الفلسطينية بسبب الإعصار الذي يعصف ببعض بلداننا ، نرى أن الشعوب العربية تُجمِعُ على عدالة هذه القضية.
و إذا كانت إسرائيل تراهن على الوقت ، فالوقت يفاقم القضايا ويعقدها ، و لن يكون في صالح من لا يحسن استخدامه.
إذا أراد المجتمع الدولي تحقيق الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط والعالم ، فلا بد من إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لكافة الأراضي العربية ، بما في ذلك القدس وهضبة الجولان ، والتوصلِ إلى تسويةٍ عادلةٍ وشاملةٍ ودائمة، استناداً إلى مقررات الشرعية الدولية، وحمل إسرائيل على العودة إلى مفاوضات جدية وذات مصداقية حول جميع قضايا الوضع النهائي، على أسس واضحة ، ورفع الحصار الجائر المفروض على قطاع غزة، والوقف الكامل للأنشطة الاستيطانية، ودعم الجهود الدولية لإعادة إعمار ما دمرته آلة الحرب الإسرائيلية.
الحضور الكرام ،
إن تقاعس المجتمع الدولي عن وضع حد للجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، هو العامل الرئيسي في تأزم الأوضاع في سوريا.
وأصبح الحل النهائي للأزمة السورية مرهوناً بإرادة واضحة للقوى الدولية الفاعلة بتنفيذ قرارات مجلس الأمن ذات الصلة لكي تكون هناك جدوى للمفاوضات بين المعارضة السورية والنظام.
ولن تنتهي هذه الكارثة الإنسانية إذا لم تُتَّخَذ الإجراءات والتدابير التي تلزم النظام السوري بتنفيذ مقررات جنيف (1) والتي تنص على تشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات، وقرار مجلس الأمن الذي استند إليها.
يكمن الضرر الأكبر في تعود الناس على مشاهد القصف والموت وكأنها أمورٌ عادية ، ويصحو الضمير العالمي من حين لآخر حين تصدمه صورة جثة طفل ملقاة على الشاطئ، بعد أن غرق في طريق الهرب بحثاً عن الأمن ، أو حين يقصف النظام مستشفى في حلب ثم يعود إلى سُباته، لكن القتل والتهجير والتعذيب في السجون يتواصل بشدة أكبر .
إننا على يقين أن اليوم الذي سوف يحاسب فيه العالم المتحضر نفسه على صمته على هذه الجريمة ليس بعيداً.
ولكي لا نصمت على أخطاء الطرف المظلوم أيضاً، نقول إن الشعب السوري بعد كل هذا الثمن الذي دفعه، يستحق قيادةً موحدة لفصائله على الأرض ، بعيداً عن المصالح الضيقة التي لا تجدي نفعاً.
إن التشتت والانقسامات للفصائل، والتي تبلغ حد الفوضى، ليس بوسعها أن تحقق نظاماً سياسياً، ديمقراطياً أو غير ديمقراطي.
ولهذا، فإن التنظيم والمَأْسسة والتحلي بالمسؤولية الوطنية والتاريخية بالبحث عن حلول سياسية تحفظ وحدة سورية ووحدة شعبها يجب أن تكون عناصر رئيسية في نضالها ضد الاستبداد.
السيدات والسادة،،،
الحضور الكرام ،،
إن التحديات المتزايدة والمتنوعة التي يشهدها العالم تفرض على أطراف النزاعات الالتزام بأحكام القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وتخفيف التوترات التي لم يجن العالم منها سوى المزيد من الآثار الكارثية على السلم والأمن الدوليين.
وانطلاقاً من القناعة الراسخة لدولة قطر تحت القيادة الحكيمة لسيدي حضرة صاحب السمو الشيخ/ تميم بن حمد آل ثاني " حفظه الله "، بنبذ اللجوء إلى القوة وأساليب الضغط والإكراه لحل النزاعات، فإننا نتمسك بضرورة تسوية المنازعات بالطرق السلمية وبخاصة طريق الوساطة التي تعد من أولويات سياستنا الخارجية، إذ نتحرك بموجبها في علاقاتنا الإقليمية والدولية طبقاً لما يقرره القانون الدولي ومبادئ العدالة.
الحضور الكرام،،،
إن تحقيق تطلعات الشعوب من شأنه سيؤدي إلى توفير الأمن والاستقرار السياسي والاجتماعي وبالتالي فتح الأبواب أمام تحقيق التنمية المستدامة بكافة أبعادها .
ولا شك أن أهم حلقة مفقودة لتحقيق السلم الدولي، هي قاعدته الاقتصادية والاجتماعية ، فالأشكال المختلفة للظلم والاستبداد والمتمثلة بالإقصاء والتهميشِ وقمع الحريات والجهل والبطالة وانسداد الأفق السياسي والتمييز على أساس الهوية في مناطقَ عدة من العالم ، تُشكل أرضاً خِصبة لنشر الإرهاب .
إن عدم التوصل إلى تسويات عادلة للصراعات يضعف القوى المعتدلة وينمّي القوى المتطرفة على المدى البعيد، ولا سيما تلك التي لا تؤمن بالحلول والتسويات السلمية ، ومن ناحية أخرى، فإن المعالجة الطارئة لمشكلة الإرهاب باستخدام المواجهة المسلحة هي عملية ضرورية لإطفاء الحرائق.
ولكن إذا لم تعالج جذور الإرهاب، وأسباب التطرف، ستنتُج تداعيات كارثية أكثر تدميراً في المستقبل.
وانطلاقاً من هذا المبدئ ، يجب مواجهة المعايير المزدوجة باتخاذ موقف حازم من مقاربة الإرهاب على أنه العنف الذي يرتكبه الآخرون ، وباتخاذ موقف من إرهاب الدولة والممارسات القمعية التي تقوم بها تجاه المدنيين العُزل والمتمثلة في العقوبات الجماعية، والقصف العشوائي للمناطق المأهولة والتهجير والتعذيب في السجون، وليس الحاصل في فلسطين وسوريا والعراق عنا ببعيد.
يرتكب إرهاب الدولة جريمتين، الأولى بحق ضحاياه الحاليين، والثانية بإنتاجه إرهابيي المستقبل.
لذا يجب اتخاذ خطوات عملية ملموسة بنظرة شاملة لا تكتفي بالمواجهات الأمنية واتهام الآخر دائماً، وإنما تفعيل دولة القانون وحقوق المواطنة ونشر ثقافة المصالحة والتعايش وقبول الآخر، ورفض الطائفية، والمعالجة الحقيقية لقضايا ملحة كالفقر والبطالة والجهل ، التي إذا تم القضاء عليها فإن التطرف يصبح مجرد حالات فردية.
لا توجد حلول سحرية للتطرف والإرهاب، بل مهمات صعبة وشاقة تحتاج إلى صبر وعمل دؤوب.
بعض الدول الصديقة لا تنظر إلى قضايا المنطقة إلا من منطلق مكافحة الإرهاب والتطرف، في حين أنه ينبغي بحث قضايا الشعوب من منطلق أهميتها بحد ذاتها، وفي إطار شمولي، وهذا يضمن معالجة الأسباب الحقيقية للتطرف وانضمام الشباب للتنظيمات الإرهابية واستغلالهم من قبلها.
فقضايا البطالة وسد السبل المتاحة أمام الشباب لتحقيق الذات، وغياب العدالة الاجتماعية هي في مقدمة الأسباب التي تستخدمها التنظيمات الإرهابية لتجنيدهم من أجل الوصول إلى أهدافها غير المشروعة المستنكرة والمدانة.
إن تحقيق تطلعات الشباب من خلال إشراكهم في الشأن العام، ومساهمتهم في خدمة المجتمع، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتربية الإنسان على قيم المساواة، ونبذ التمييز العنصري والطائفي والمذهبي ، هي الطريق للقضاء على التطرف وسد الذرائع التي تستخدمها التنظيمات الإرهابية لضم الشباب إليها .
الحضور الكرام،
لعلكم تدركون معي أهمية القضايا والموضوعات المطروحة على أجندة أعمال هذه الدورة للمنتدى، وإنني على يقين بأن المستوى الرفيع للمشاركين سوف يُثري مناقشتها بالآراء والاستنتاجات لتحقيق الاهداف المنشودة من هذا المنتدى.
أكرر الترحيب بكم في الدوحة وأتمنى لكم إقامةً طيبة ولهذا المنتدى كل النجاح والتوفيق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،