السيدات والسادة،
مساء الخير، والشكر الجزيل موصول لسعادتكم لتقديمي بتلك الطريقة الرقيقة.
إنه حقا لشرف عظيم لي أن أكون هنا في النرويج لأخاطب مثل هذا الحضور المرموق.
لقد استذكرت محادثة أجريتها مع زميل لي بعد تعييني وزيراً للخارجية في دولة قطر. لقد كنت أحدثه عن أنه يحدوني الأمل في أن تصبح دولة قطر منبرا للسلام ومنتدى للحوار، ومحفزاً على المصالحة.
قال لي زميلي: "إذن، يبدو أنك تريد أن تكون قطر مثل سويسرا." قلت: "لا، بل أريدها أن تكون مثل النرويج."
فالنرويج ليست فقط موطناً لجائزة نوبل للسلام، ولكن بلدكم كانت لاعبا رئيسيا في حل النزاعات على مدى عقود.
لقد دعمتم وسهلتم عمليات السلام والمصالحة في العديد من الدول مثل غواتيمالا وكولومبيا وأفغانستان وميانمار والنيبال والفلبين والصومال وسريلانكا والسودان.
إن سجل النرويج في مجال تصدر تسوية النزاعات والسلام لا يضاهيه سجل آخر.
تعتبر قطر دولة فتية وفقا للمعايير الأوروبية، حيث انضممنا إلى الأمم المتحدة في العام 1971.
ولكننا، تماماً، مثل النرويج مصممون على أن نكون قوة للخير في العالم، وإلى أن نضطلع بدور فعال في تعزيز السلام.
إن السياسة الخارجية لدولة قطر تستند على أربعة مرتكزات رئيسية، وهي:
• تعزيز السلم والأمن الدوليين من خلال تشجيع الحل السلمي للنزاعات الدولية
• دعم حق تقرير المصير
• عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى
• التعاون مع جميع الدول الساعية للسلام.
ومنذ حصول قطر على مقعد دوري لمدة عامين في مجلس الأمن للأمم المتحدة في العام 2006، ظلت بلادنا وسيطا فعالاً في الصراعات العابرة للحدود وتلك البينية في منطقة الشرق الأوسط وشمال وشرق أفريقيا.
وكعهدها دائما، كان هدف دولة قطر متمثلاً في الحفاظ على السلم والأمن العالميين وإقامة علاقات إيجابية مع جميع الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية.
ففي العام 2008، قامت دولة قطر بالتوسط بنجاح في إبرام اتفاقية الدوحة بين الأحزاب اللبنانية المتنافسة، مما أنهي أزمة سياسية استمرت طوال 18شهرا في تلك الدولة.
- وفي العام 2010، اضطلعت دولة قطر بدور قيادي في جهود السلام في السودان، حيث استضفنا محادثات السلام في عاصمتنا الدوحة. وبعد ثلاثة أعوام من ذلك استضفنا مؤتمر دولي للمانحين لإعادة الإعمار والتنمية في دارفور.
- وفي العام 2014، استطعنا تأمين إطلاق سراح ضابط في الجيش الأمريكي معتقل لدى طلبان مقابل إطلاق سراح خمسة سجناء.
- وفي الآونة الأخيرة، توسطت قطر بنجاح بين قبائل التابو والطوارق المتحاربة في ليبيا، مما نتج عنه توقيع اتفاقية السلام والمصالحة في الدوحة.
- أيضا ساعدت قطر في حل النزاع الحدودي بين أرتيريا وجيبوتي في عام 2010، وفي بداية هذا العام ساعدنا في تسهيل تحرير 4من سجناء جيبوتي معتقلين لدى أرتيريا - وفي الحقيقة رافقتهم أنا شخصيا في العودة الى جيبوتي.
وفي كل جهود التوسط، نحن حافظنا على أبوابنا مفتوحة لجميع الفرقاء في النزاع لأجل تحقيق سلام دائم.
أن الدوحة تعتبر اقليم محايد تستطيع فيه فتح التحدث الى حماس، والولايات المتحدة يمكنها التفاوض مع طلبان، وحيث تستطيع الفئات المتصارعة تسوية خلافاتها.
وأعتقد أن من الواضح لنا جميعا أن أهمية صنع السلام وجهود التصالح في الشرق الأوسط لم تكن أكثر إلحاحا مما هي عليه اليوم.
دعونا نبدأ بفلسطين:
كما تدركون جميعا بشكل جيد، أن النرويج كانت مكان لاستضافة مفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين والتي هدفت لإلزام كلا الطرفين بتسوية تفاوضية لنزاعهما، والتي تصورت إنشاء دولة فلسطينية.
لقد مضت حتى أكثر من عشرين عاما منذ توقيع اتفاقية أوسلو وكما تدركون فإن الفلسطينيين لم يحصلوا حتى الأن على دولتهم المستقلة الموعودة.
بالتطلع نحو الأمام، سوف نستمر في الضغط على أعضاء الأمم المتحدة لدعم التزاماتهم القانونية والأخلاقية نحو الشعب الفلسطيني، وأن يعترفوا بفلسطين كدولة مستقلة.
أن قطر كانت ولا تزال داعم قوي للاستقلال الفلسطيني، كما قدمنا مساهمات هامة للتنمية الاقتصادية لفلسطين (وخاصة في غزة، التي لا تزال تخضع للحصار)
الى جانب فلسطين.......... فإن قطر، شأن جميع الدول العربية – تستوعب بالكامل النتائج الاجتماعية والسياسية والإنسانية للربيع العربي.
نحن نؤمن أن أحداث الربيع العربي والثورات المضادة التي أعقبتها أنتجت تغيرات هامة في المشهد السياسي والجغرافية السياسية للشرق الأوسط وذلك منذ اتفاقية سايكس بيكو.
وبحسب وجهة نظرنا، فإن الثورات المضادة في الكثير من العالم العربي، عكست مسار المكتسبات الأولية للحرية والتحرر التي حققتها الشعوب في السنوات الأولى للحركة.
والأسوأ من ذلك، فإن وحشية الطغاة من أمثال بشار الأسد، الذين لجأوا للقوة العسكرية لسحق الجماهير المنشقة (وفي ذات السياق، آمال شعوبهم) دفعوا العديد من الشباب من الرجال والنساء الذين أصيبوا بخيبة الأمل كي يصبحوا متطرفين.
وبذات القدر فإن وحشية رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي ضد المدنيين في الموصل وقتل وإعدام المحتجين دون محاكمة أدى الى اليأس والى زيادة تطرف المواطنين الذين فقدوا الأمل في مستقبل أفضل.
كما أن من الصعب التصديق، بأن مجرمي الحرب الذين نظموا وأداروا عمليات القتل الجماعي تلك لا يزالوا حتى الأن طلقاء ولم تجر محاسبتهم على أفعالهم – من الناحية الأخلاقية أو القانونية- بواسطة المجتمع الدولي.
لذا نحن نكرر دعمّنا القوي للحل السياسي للأزمة في سوريا وسوف نستمر في الطلب بأن بشار الأسد يجب محاسبته على جرائم الحرب.
كذلك، أيضا نأمل أن تتمكن الدبلوماسية في جلب العدالة وفي النهاية السلام لشعب العراق. ذلك لان الطائفية كادت أن تقضي على تلك الدولة، ونعتقد أنه حان الوقت لتضميد الجراح وجلب مقترفي العنف للعدالة، وتشكيل حكومة تكون ممثلة حقيقية للشعب العراقي.
السيدات والسادة،
أن القتال في سوريا والعراق وليبيا واليمن يجب أن تٌوضع له نهاية.
لأنه كلمّا طال القتال كلما كانت التضحيات أكبر في العنصر البشري والمزيد من الأطفال الذين سيحرمون من حقوقهم في التعليم.
كما أنه كلمّا طال القتال، كلمّا زاد احتمال تطرف الشباب من الرجال والنساء وزاد إغراؤهم نحو معسكرات المتطرفين نتيجة ليأسهم وفقدانهم للأمل.
وللأسف، أَضُيف لهذه الخلطة السامة من اليأس وضياع الأمل، محفزا آخر ألا وهو الإذلال، حيث أن الفخر الذي يشعر به هؤلاء الشباب من الرجال والنساء نحو أمتهم وأسرهم وحتى نحو أنفسهم قد تم تجريدهم منه.
وفي ذلك السياق، من الجدير ذكره أننا نشهد الأن في تاريخ المنطقة تحول أكبر عدد من الشباب الى المراهقة، حوالي 108مليون نسمة من الشباب من الرجال والنساء.
شباب صغار من الرجال من أمثال عمر مصطفي، المصري الجنسية البالغ من العمر 22عاما والذين كان في أحد الأيام ثوري علماني يهتف " للحرية والخبز والعدالة الاجتماعية" في ميدان التحرير .... والذي أصبح فيما بعد متطرف يقاتل مع داعش ..... بسبب اليأس والقنوط.
أو الشاب الذي التقيته في إسطنبول، والذي لا استحضر أسمه والذي فقد معظم يده اليمنى وكتفه في القتال من أجل الحرية في ليبيا.
لقد غادر سريره في المستشفى للإدلاء بشهادته في أحد اجتماعات الأمم المتحدة - للتوسل للمجتمع الدولي لإنقاذ بلاده. بعد أسابيع، علمت أن قوات اللواء حفتر قد أحرقت منزله وساوته بالأرض. وفي الآونة الأخيرة، رأيت صورته على موقع للتواصل الاجتماعي ... مرتدياً عصابة سوداء، ويقف أمام راية سوداء.
من التالي الذي سيرفع العلم الأسود؟
بعد سنوات من الآن، يمكن أن يكون عمران دنقيش، الذي انتشلت جثته من تحت الانقاض في مدينة حلب، والذي حركت صورته العالم إلى حد البكاء. أي نوع من المستقبل نقوم برسمه لأسرة عمران في هذا العالم؟ وإلى أين سيلتفتون بحثاً عن الأمل؟
في العراق، وجدت داعش أرضا خصبة للتجنيد في البيئة السياسية الطائفية التي تم استحداثها في أعقاب الغزو الأميركي.
بعد ذلك، انتشرت ما يسمى "الدولة الإسلامية" كالوباء عبر سوريا ومنها الى ليبيا، نتيجة لتصاعد الاضطرابات السياسية وتعميق الانقسامات الطائفية.
وقد تم الآن إعادة ترسيم حدود العراق على أساس هذه الخلافات الطائفية، وسوريا، للأسف، قد تحذو حذوها.
ومثله مثل الوباء، فإن مرض الإرهاب لا يعرف الحدود.
مستلهمين بالمتطرفين في الشرق الأوسط ... تبنى الشباب من الجنسين في أوروبا وأمريكا الشمالية وأفريقيا وشبه القارة قضية التطرف.
شعوب الشرق الاوسط لم تختار بأن تعيش في بيئة ارهاب وعنف طائفي. والتاريخ يشهد باننا نؤمن بالتسامح والتعايش، بغض النظر عن خلفيتنا المختلفة من حيث الأعراق، أو الاديان، أو المذاهب. في تاريخ العالم، الطائفية كانت دائما تأتي قبل النزاع المسلح. هنا في أوروبا، قد كانت هناك حربا دموية لمدة ثلاثين عاما حول قضية التعصب الديني. وفي الآونة الاخيرة، المسيحيين في إيرلندا الشمالية قاتلوا بعضهم بعضاً بسب اختلافات طائفية.
الدرس لنا في الشرق الاوسط هو بأنه يجب علينا أن نشجع ثقافتنا العريقة التي تعزز التسامح، وقاعدة هويتنا على المواطنة المشتركة، وليس على اختلافاتنا الطائفية. ويجب علينا أيضا بأن نقدم لشعوب الشرق الاوسط فرصة ليؤمنوا لأنفسهم مستقبلاً أفضل. شعوب الشرق الاوسط تستحق حكومات تستجيب لأمالهم واحتياجاتهم، وبأن تكون حقوقهم محمية. شعوب الشرق الاوسط تستحق بأن يعيشوا في مجتمعات تضمن العدالة، بدلا من عدم المساواة.
وشعوبنا يستحقون بأن يمارسون مختلف الاديان، دون خوف من التمييز، أو الاضطهاد. هذه هي الحريات التي قاتلوا وماتوا لأجلها الشعوب خلال الربيع العربي، ونحن نؤمن بانها مهمة الان مثلما كانت مهمة في ذلك الوقت.
من جانبنا، نحن في قطر ارتكبنا خطط لتمكين الشباب ودعم المبادرات التي تعزز خلق فرص العمل على نطاق واسع، وتنظيم المشاريع، وإشراك الشباب في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. لقد حققنا التزاماً جريئاً في التعليم، لأننا نؤمن بأن التعليم هو شرط مسبق ضروري بخصوص التمكين الاجتماعي والاقتصادي.
من خلال المصادقة على "إعلان المدارس الامنة" في العام الماضي في أوسلو، نحن-وأنتم هنا في النرويج- لسنا فقط على الطريق نحو انقاذ المدارس وحماية التعليم، نحن أيضا نقوم بإنقاذ الأرواح وضمان سلامة ورفاهية الطلاب والمعلمين في مناطق الصراع.
نحن نستثمر في التعليم كحق من حقوق الانسان العادية، وكأداة لتحقيق الازدهار والتنمية المستدامة. ولكننا مقتنعون بأن التعليم هو أفضل تدبير وقائي يمكن أن نتخذه ضد تهديد التطرف والارهاب.
لهذا السبب، نحن أيدنا برامج من الممكن لها بأن توصل الملايين من الاطفال خارج المدرسة في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا، والهدف هو حماية المنطقة والعالم من ارتفاع وتيرة التطرف العنيف.
الان، استثمارات قطر في المعلمين وغرف التعليم منحت أكثر من 600,000 طفل في مخيمات اللاجئين السوريين بأن يستمروا في دراستهم.
جنباً إلى جنب مع شركائنا، نسعى إلى استبدال الأسلحة بالأقلام، واليأس بالأمل والجمود بالابتكار.
وكبلدٍ حباه الله بالثروة والموارد الطبيعية، فإننا نعتقد أنه من مسؤوليتنا الانسانية والاخلاقية مساعدة من هم اقل حظا منا.
عليه، فقد التزمت بلادنا بمبلغ 500 مليون دولار لتنمية دارفور وقد ساهمت هذه المبادرة في مساعدة ما يقارب 150000 شخص.
كما ساهمنا بمبلغ 300 مليون دولار في لبنان الجنوبية لمساعدة اللبنانيون الشيعة والسنة والمسيحيين لإعادة بناء المنازل والمدارس والمستشفيات التي تم تدميرها من قبل مدفعية وهجوم جوي اسرائيلي في عام 2008. وتعهدنا بمليار دولار في غزة لإعادة اعمار الطرق والمدارس والمستشفيات التي دمرت عقب الهجوم الاسرائيلي الشنيع على غزة في صيف 2014. كما التزمنا بمبلغ 240 مليون دولار في القدس لمشاريع التنمية.
كما اننا ومن خلال مجموعة متنوعة من البرامج والمبادرات الجارية في اليابان وهاييتي وتونس ونيو اورلاندو – وفي جميع انحاء العالم- ملتزمون بتقديم مساعدات لشتى انحاء العالم وتقديم التنمية للمحتاجين، ليس فقط للعرب وليس فقط للمسلمين بل لكل المحتاجين في كل مكان.
وأود ان انهي ملاحظاتي بنقطة فلسفية قصيرة.
قد يتذكر معظمكم انه قبل عشرون سنة من الان قام سامويل هنتنجتون بكتابة صراع الحضارات والذي توقع به ان الحرب الباردة القادمة سيسيطر عليها الخلافات بين الحضارات والاديان. قد تم مهاجمة كتابه من قبل العديد من المؤرخين والباحثين وبدأ الكتاب لبعض سكان الوطن العربي كأنه تبرير لعدوان الغرب ضد المجتمعات المسلمة. ولكن اليوم وللأسف، قام المتطرفون من الشرق الاوسط الراغبين في اثارة الشغب والمتطرفين السياسيين من الغربيين الراغبين في استغلال الحوادث الارهابية لتحقيق مصالحهم السياسية بإعطاء فرصة جديدة ومصداقية لكتاب " صراع الحضارات ".
ولكل من المتطرفين والوطنيين الغربيين الاهتمام ذاته في نشر ثقافة صراع الحضارات – حيث انها تخيف الناس الأمر الذي يجعل المجموعات المتطرفة والافراد أكثر شهرة. ولكن تجربتي الشخصية تخبرني ان فكرة " الصراع " ما هي الا قضية خاسرة وأنه – في عالم العولمة حاليا – ستخسر قوى التفرقة امام قوى التعاون.
في الكلمة التي ألقيتها أمام الأمم المتحدة في شهر يونيو، اقترحت فيها مواجهة جدول أعمال المتطرفين من خلال تشجيع حوار الحضارات، وهو ما آمل أن نفعله هنا اليوم ... وما آمل أن نقوم به معا - في قطر والنرويج – خلال الأشهر والسنوات المقبلة.
شعوبنا لديها الكثير من القواسم المشتركة. ونحن معا نتجه نحو تنويع اقتصاداتنا.
نعمل معا على تطوير مصادر الطاقة المتجددة، والسعي لجذب رأس المال البشري الأكثر كفاءةَ.
في قطر، نعمل على قيام استثمارات كبيرة في تكنولوجيا الطاقة الشمسية، والتعليم، والانتقال من اقتصاد قائم على الكربون إلى اقتصاد قائم على المعرفة.
لكن الأكثر أهمية، أن تلتزم في كل من قطر والنرويج بالمشاركة في السلام،
ونفضل الدبلوماسية والمفاوضات كوسيلة لحل النزاعات - بدلا من الحرب وسفك الدماء - وأعتقد أن هذا هو المجال الذي يمكننا اقامة شراكة دائمة.
مع النرويج نعمل على ترسيخ الجهد في أوروبا، وتمثل قطر "التحالف من اجل السلام" في الشرق الأوسط، وأعتقد أننا يمكن أن نعمل على تسهيل أفضل لسبل الحوار، وتشجيع حل النزاعات وتعزيز المصالحة.
السيدات والسادة
وبذلك، أعتقد أنه يمكن للنرويج وقطر أن تصبحا بحق شريكين من أجل السلام.
اصاحب السعادة
شكرا لكم، وأشكركم جميعا على حسن استماعكم