بسم الله الرحمن الرحيم
سعادةُ رئيسِ الجمعيةِ العامةِ للأممِ المتحدة
معالي الأمين العامّ للأمم المتّحدةِ ،
أصحابَ السّعادةِ الوزراء والمندوبين الدائمين،
السيداتُ والسادةُ الموقّرُون،
أتقدّم بالشكرِ لِرئيس الجمعيةِ العامة على اهتمامه واستجابتهِ لِتنظيمِ هذهِ المناقشةِ المواضيعية رفيعةِ المستوَى، وذلك لمعالجةِ مسألةٍ تهمُّ العالمَ بِأسره، كما أُشيدُ بخطةِ الأمين العام حولَ مكافحةِ التطرفِ العنيفِ، إذْ تأتي في ظروفٍ دقيقةٍ لِلْمجتمع الدولي.
السيدُ الرئيس،
اسمحوا لي أن أستهلَّ حديثي بِ "أحمد"، الذي لم يتجاوزِ الآن الخامسةَ والعشرينَ، وكان يتعرضُ في صِباهُ لمضايقاتٍ من رفاقهِ بسبب دِيانته، فأصبحَ حادَّ الطباعِ، يعجزُ عنِ النقاشِ، حتى شكاهُ مديرُ مدرستهِ ذاتَ يومٍ إلى الشّرطةِ التي أخبرتْهُ أنّ أصدقاءهُ خائفونَ من سلوكه المتطرفِ، أحمد الذي شعرَ حينها بعنصريةِ المجتمع الذي يعيشُ فيه تُجاهه، وزملائِه الذين كانوا ينادونه ب"الإرهابي"، وجد نفسهُ بين أحضانِ مجموعةٍ من الشباب المتطرف، وأقنعوهُ بالتّوجهِ إلى إحدَى الدولِ للانضمام الى إحدى التنظيمات الإرهابية العنيفة، إلى أن استدعتْه الشرطةُ للتّحقيق ثانيةً، وحوّلوهُ إلى أحدِ المراكزِ التي تنظم لقاءاتٍ حِواريةٍ هدفها ثَنيُ الشباب عن الانضمامِ إلى هذه التّنظيمات، فصرّح أحمدُ بَعدها بأنه لوْلا تلكَ اللقاءات في المركز، لصارَ في العراق أو سوريا بحثاً عن "الثأر".
السيدُ الرئيس،
ليستْ هذه القصةُ من نسجِ الخيال، بل هي قصّةٌ واقعيةٌ بطلها شابٌ من ضمنِ مئات الشباب الذين كادتْ مجتمعاتهم - لولا تدارُكُها - أن تُودي بهم إلى الوقوع بين براثِنِ التّطرف نتيجةَ تجاهلِها لِجذور مشكلاتِهم، ومنها العنصريةُ والتهميشُ، ما زالتْ هذه حالاتٌ استثنائيةٌ عند الشباب المسلم في الغربِ، لأنّ الدولةَ في الغربِ تحُوزُ آلياتٍ كثيرةٍ لِمنع تفاقُم الغضبِ، ولأنها تمنحُ الشبابَ حريةً نِسبيةً في التعبيرِ عن أنفسهم، وأدواتٍ قانونيةً واجتماعيةً لمعالجة مشاكلهم.
إذا كان هذا حالُ أحمدَ في دولة غرْبيةٍ متطورة، فَلكم أن تتخيّلوا حالَ الشبابِ الذين تَنْسدُّ الآفاقُ في وجوههم، ويُمنعون من التعبير عن أنفسهم، ويتعرضون لِلإذلال، ويُزجُّ بِهم في المعتقلاتِ بسببِ التعبير عن موقفٍ ، ويمرُّون بتجرُبةِ التعذيب في سجون دولةٍ دكتاتوريةٍ.
السيدُ الرئيسُ،
تُؤمنُ بلادي بأنّ ظاهرةَ التطرف تُشكّل تَحدياً خطيراً للمجتمعات كافّةً، إذ يدفع الشبابُ والأطفالُ ثمناً باهظاً ومباشراً جَرّائَها، وأنّ استئصالَ هذه الظاهرةِ العالميةِ يتطلّب التزاماً جماعياً واستراتيجيةً طويلةَ الْمدَى للتّصدّي للظّروف المؤديةِ لها قبل أن تستغلّها التنظيماتُ الإرهابيةُ، مع ضرورةِ مُراعاة الظروف الخاصّة لِكلّ بيئة ينشأُ فيها التطرف.
ليس التطرفُ وليدَ دين بعينه، بل وليدَ التشوُّه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يُنتج قِوًى تُفسّرُ الدّين على هذا النّحوِ، وتَتَناول الإرهابَ كمسألةٍ دينيةٍ ترمي إلى تحقيق أهدافٍ خاصةٍ لا تخدُم الجهودَ التي يضطلع بها المجتمع الدولي في مكافحة هذه الظاهرة، بل تُقوّضُها.
السيدُ الرئيس،
ترفضُ بلادي أيّة محاولة لِتوجيهِ الاتّهام لدين أو عرْق بالتطرف العنيف والإرهاب، وإن محاولة استغلالِ حوادثِ العنفِ المنفردة لربطِ التطرف بدينٍ معيّنٍ، تُفشِلُ الجهودَ التي ترمي إلى معالجة الأسباب الحقيقية وراء التطرف، ناهيكُم عن أنّ الإساءة إلى الرموزِ الدينية تشكّل ذريعةً للمتطرفين لتجنيدِ المزيدِ من الدّاعمين لِفِكرِهم، ونُشدِّدُ هنا على أهمية الدور الذي ينْهضُ به القادةُ الدّينيّين الداعِين إلى التسامح والقيم الإنسانية، وكذلك دورُ منظمات المجتمع المدنيِّ ورجالِ الفكر والتربويّين، لإشاعةِ روحِ العفو والتسامح والبحث عن التّسوياتِ بدلَ فرضِ الرأي على الآخرينَ.
السيدُ الرئيس،
يتطلع الشبابُ إلى إيجادِ معنىً لِحياتهم ولِلتّعبير عن انفسهم، وإنّ الأنظمةَ الديكتاتوريةَ تَمنعهم من ذلك بكلّ بساطةٍ، وهذا يُولِّد احْتقاناً، وعندما يُضاف إلى ذلك البطالةُ وانسِداد الآفاقِ ومواجهةُ أيّ احتجاجٍ على ذلك بالعنف فإن النتيجة هي تحوُّل الغضبِ المُتراكم إلى عنفٍ مضادٍّ، وثَمّةَ قِوىً سياسيةً دينيةً وغيرَ دينيةٍ تقفُ بالمِرصاد لجذْبِ الشباب الغاضب إلى صفوفِها.
إنّ ما يجري في منطقتنا من تخريبٍ وتدمير، وقتلٍ وتهجير، وتنَكُّر للْحقوق، يُغذّي التطرف، ويوفرُ حُججاً للتأثير على الشباب، فنجدُهم يفقدون الأملَ والثقة في قدرة المجتمع الدولي على حلّ الصراعات وفض النزاعات، أمَا آن الأوانُ لِوضع حدًّ لِلانتهاكات والسياسات التي تستهدف الشعوبَ المطالبةَ بالحرية والكرامة الإنسانية؟
السيد الرئيس،
مع تعدُّدِ النّكبات التي تتعرض لها شعوبُنا، تبقى فلسطين قضيتنا الأساسية، التي لا يمكن لنا تجاهلها، إذ أنّ وجودَ الاحتلال بحدِّ ذاته، واستمرار الممارسات القمعية ضدّ الشعب الفلسطيني، بما في ذلك الأطفالُ والشبابُ، تُراكم غضباً على مستوى المنطقةِ نتيجةً لِلشّعور بالظلم ، وذلك على الرغم من أن الشعب الفلسطينيَّ ذاتَه قادَ نضالا تحرُّرِياً منظّماً يُعلِي قيمَ المساواةِ والتعايش والسّلام العادلِ.
وعليه، تُجدّدُ دولةُ قطر تأكيدها أن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية ووقفَ الاستيطان وتفكيكَ المستوطنات، واحترامَ الوضع القانونيِّ للقدس الشريف، وتحقيق حل الدولتيْن، سَينعكس إيجاباً على شعوب المنطقة، وسيُحرّر الأطفال والشبابَ من الخوف واليأس، ويقضي على أحدِ المُسبّبات الرئيسية للتّطرف في المنطقة، وسيمنح هؤلاء الأطفالَ والشباب الأمل في مستقبلٍ آمن.
السيد الرئيس،
إدْراكاً من بلادي أن الشباب هم الوقود البشريُّ الذي تستخدمه الجماعاتُ المتطرفةُ لتحقيق مآربها، فقد نبهَت من خطر إهمال دور الشباب وعدم توفير البيئة الصّحية لتطوير قدراتهم وإشراكهم في رسمِ مستقبلهم، فَهُم المحرّك للتغيير الإيجابيّ، كما يجب أن نبتكرَ الفُرص المناسبة للاستفادة من إمكانياتهم واستكشاف قدراتهم، فقد كان للشباب عبرَ التاريخ دوراً رائداً في بناء أوطانهم، إنّهم مصدرُ قوتِها، وصُنَّاعُ مجدِها، وصمامُ حياتِها، وعنوانُ مستقبلِها، و" مصير كل أمة يتوقف على شبابها".
لذلك فإن حمايتهم من التطرف ينبغي أن يَحظى بأولويّة من المجتمع الدولي، وذلك لا يتَأتّى إلا بإتاحة الفرص لهم في رسم مستقبلهم، بما يضمن لهم سبل العيش الكريم.
وتحقيقاً لهدف مكافحة التطرف العنيف، اعتمدتْ دولةُ قطر استراتيجيةً تَغرِس روح التسامح والحوار البنَّاء، والانفتاح على الآخرين على الصعيديْن الوطنيّ والدولي، كما كانت بلادي من المؤسسين للصندوق العالميّ لإشراك المجتمعات المحلية وتعزيز قدرتها على التكيّف، وهي من بين أكبر المساهمين في هذا الصندوق، الذي يُولي أهميةً خاصة لحمايةِ الشباب من أفكارِ ومخططاتِ المجموعات المتطرفة والعنيفة.
كما دعمتْ دولة قطر حوارَ الحضارات والتعايش بين الأديان والثقافات المختلفة، وأنشأتْ من أجل ذلك مؤسساتٍ وطنيةٍ تُعنىَ بنشر ثقافة الحوار ومحاربة التطرف ونَبذ العنف.
ومن هذه المؤسسات مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان، الذي عزّز الجهودَ المبذولة لمكافحة التطرف والكراهية، ومدِّ جسور التعاون والتفاهم بين أتباع الأديان والحضاراتِ والثقافات.
كما أُسِّس مركزُ حمد بن خليفة الإسلامي في كوبنهاجن بالدنمارك عام 2014، الذي يعمق الفهم بالدين الإسلامي الحنيف، ويدعم الجهود الدولية لمكافحة التطرف، ويعزز التعايش السلمي والمحبة بين الأديان والثقافات والشعوب.
السيد الرئيس،
تؤمن دولة قطر بدور التعليم في تحويل حروب المنطقة إلى سلام، ومشاكلِها إلى وئام، ولا سيما في المجتمعات التي تعاني الظلمَ والاضطهادَ والنزاعاتِ المسلحة، فالشبابُ والأطفال المُتعَلِّمون هم الأكثرُ وعياً وقدرة على مواجهة الأفكار المتطرفة وحماية أنفسهم ومجتمعاتهم من مخاطرها.
تُثيرُ هذه الحقيقةُ تساؤلاتٍ حولَ مصير الأطفال والشباب داخل سوريا وخارجَها، الذين حُرموا من مقاعدِ الدراسة، ليشكلوا جيلاً محطماً يُنذرُ بدولة ضائعة، تُسيطر عليها الجماعات الإرهابية.
لهذا حرصت دولة قطر على حماية الأطفال والشباب السوريين، إذْ خصّصَت في السنوات الماضية مواردَ مالية كبيرة لتوفير التعليم للأطفال والشباب الذين لا ينتظمون في المدارس في مناطق اللجوء والنزوحِ، بهدف ضمان حصولهم على التعليم المناسب، وعمِلتْ بشكل وثيقٍ لِتنفيذ برامجَ مهمّة في هذا الخصوص مع المنظمات الدولية المعنية .
هذه الجهودُ التي تبذلها قطر وغيرها من الدول على أهميتها لا تكفي لوضع حدٍّ لمعاناتهم وحمايتِهم من التطرف، إذ يجب التوصلُ إلى حلّ سياسي للأزمة السورية، يُحقق التطلعات المشروعة للشعب السوري الشقيق، ويحفظ وحدةَ وسيادة سوريا، وسنواصل تقديم كافة أشكال الدعم الإنساني للأشقاء السوريين، بشكل مباشر وعبر المنظمات الدولية والإقليمية، وفقاً للقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي.
السيد الرئيس،
إن مكافحة التطرف العنيفِ واستئصالِ جذوره يعتمد أيضاً على بناء شَراكات رصينة وفاعلةٍ تجمعُ الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص ومنظومة الأمم المتحدة والمجتمعات.
وفي ضوء أهمية مثلِ هذه الشراكات، يُسعدني الإعلانُ عن دعم دولة قطر للشراكة بين مؤسسة "صلتك" في دولة قطر -والتي هي حاضرة اليوم معنا- وفرقة العمل المعنية بالتنفيذ في مجال مكافحة الإرهاب التابعة للأمم المتحدة، لتنفيذ مشروعٍ مشترك يجعل من حماية الشباب من التطرف وتعزيز قدراتهم هدفَه الرئيسَ، استناداً إلى الدور الذي تنهض به مؤسسة "صلتك" في المنطقة العربية.
وختاماً، أُجدّد موقفَ دولة قطر من نبذها لكافة أشكال التطرف العنيف، ودعمِها لجهود المجتمع الدولي في اجتثاث هذه الظاهرة من جذورها، ودعونا نفكر في مصائر الشباب ليس فقط من زاوية الإرهاب وخطر الإرهاب، بل من منطلق أهمية الإنسان كإنسانٍ، والاهتمام بمشاكلهم ذاتِها، وكيف يفكرون بالمجتمع والدولة وماذا يريدون، وليس فقط ماذا نفكرُ وماذا نريد، لكي نتمكن من خلق قاعدة لحوار مفيد.
وشكراً لكم